أود السؤال عن دعاء يتناقل الآن في المنتديات بعنوان : " دعاء يستغيث منه الشيطان " ، وهو ورد في الأثر عن الإمام محمد بن واسع : " أنه كان يدعو الله كل يوم بدعاء خاص ، فجاءه شيطان وقال له : يا إمام ! أعاهدك أني لن أوسوس لك أبدا ، ولن آتيك ولن آمرك بمعصية ، ولكن بشرط أن لا تدعو الله بهذا الدعاء ، ولا تعلمه لأحد . فقال له الإمام : كلا ! سأعلمه لكل من قابلت وافعل ما شئت . هل تريد معرفه هذا الدعاء ؟ كان يدعو فيقول : " اللهم إنك سلطت علينا عدوا عليما بعيوبنا ، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم ، اللهم آيسه منا كما آيستـه من رحمتك ، وقَنِّطه منا كما قَنَّطـته من عـفوك ، وباعــد بيننا وبينه كما باعـدت بينه وبين رحمتك وجنتك " فهل يصح هذا الأثر ؟ وجزاك الله الجنة .
الحمد لله
في هذه الحكاية جانبان اثنان لا بد من التنبيه عليهما :
أولا :
شرعية كلمات الدعاء المذكورة عن محمد بن واسع رحمه الله ، فهي جمل صحيحة المعاني ، مستقيمة المقاصد ، ليس فيها ما يستنكر ولا ما يستغرب ، فالدعاء بتقنيط الشيطان من إغوائك وإضلالك له ما يشهد له ، وليس اعتداء في الدعاء ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يصيبه اليأس من العباد في بعض الأزمان والأحيان ، فقال :
( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )
رواه مسلم (2821)
وليس بمستنكر أن يسأل العباد ربهم أن يحقق لهم ذلك ويعصمهم من الشيطان ، وهو من جنس الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم ، فلا حرج على مَن دَعا به وسأل الله تعالى بما جاء فيه ، من غير اعتقاد فضل خاص أو أثر معين لكلماته ، بل يعتقد أنها كغيرها من كلمات الدعاء ، الصدق والإخلاص فيها هو سبب قبولها ، وليس شيئا غير ذلك .
ثانيا :
أما عن وقوع الحادثة المذكورة ومجيء الشيطان إلى محمد بن واسع ومخاطبته بذلك الكلام ، فهذا لا نستطيع أن نؤكده ، ولا ننفيه أيضا ، والسبب أننا لم نجد سند هذه القصة في كتب الأثر والرواية ، كما أننا لا نرى في مقصودها شيئا مستنكرا يستحق التكذيب :
فكلمات الدعاء مقبولة شرعا وهي كالاستعاذة ، والشيطان يتصاغر عند الاستعاذة بالله ، وأشد ما يجده إذا حالت رحمة الله بينه وبين العباد ، فقد استكبر هو عنها فلا يريد أن تنال أحدا من الخلق .
أما تفاصيل القصة فلعل الأقرب أنها رؤيا منام ، وليست حقيقة واقعة ، وإن كان الشيطان يعرض للبشر بصورة رجل ، كما عرض لأبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ مال الصدقة . رواه البخاري معلقا (3275)
وفي كتب السير كثيرٌ من القصص المشابهة ، ولم نر أحدا من أهل العلم يعقب عليها بالتكذيب والنفي . انظر كتاب "سلاح اليقظان لطرد الشيطان" للشيخ عبد العزيز السلمان (ص/15)
ومحمد بن واسع من أئمة العلم والدين ، توفي سنة (123هـ) وكان من عباد أهل البصرة وأفضلهم ، حتى قال فيه سليمان التيمي : " ما أحد أُحِبُّ أن ألقى الله بمثل صحيفته مثل محمد بن واسع " انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (6/119) ، فلا يستبعد أن الشيطان يئس من إغوائه وإضلاله فجاء يطلب منه الكف عن الدعاء عليه .
ورغم ذلك فالجزم بثبوتها خطأ أيضا ، إذ لم نر من ذكرها إلا أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/38) ومِن المعلوم أن كتاب "الإحياء" يحوي الكثير من الأحاديث والآثار والقصص الضعيفة والموضوعة ، فلا يُركن إلى نقله .
جاء في "فتاوى الشيخ ابن باز" رحمه الله (26/129-130) :
" السؤال :
قال محمد بن واسع رحمه الله : كنت أقول صباحا ومساء : " اللهم إنك سلطت علينا عدوا بصيرا بعيوبنا ، مطلعا على عوراتنا ، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم , اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك , وقنطه منا كما قنطته من عفوك , وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين جنتك .
قال محمد بن واسع : فرأيت إبليس في المنام فقال : لا تعلم هذا الدعاء لأحد فقلت : والله لا أمنعه من مسلم !
فما رأي سماحتكم بهذا الدعاء ؟ وهل يجوز الدعاء به ؟
فأجاب عنه سماحته بتاريخ 18/ 12/ 1414هـ .
محمد بن واسع الأزدي البصري من صغار التابعين ، ومن الثقات العباد رحمه الله .. وهذا الدعاء لا بأس به ، ولم أقف عليه في ترجمة محمد المذكور في "البداية" لابن كثير .
ويكفي عن ذلك التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، كما قال سبحانه : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الأعراف/200 ، وقال سبحانه : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) النحل/98
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشيطان في صلاته وغيرها بقوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وربما قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه .. وقد فسر أهل العلم الهمز بالصرع ، والنفخ بالكبر ، والنفث بالشعر ، يعنون بذلك المذموم ، والله ولي التوفيق " انتهى .
والخلاصة : أنه لا ينبغي الجزم بثبوت مثل هذه القصة ؛ إذا لم ترد مسندة في كتاب ، ولم ترد أيضا في كتاب يتحرى الدقة ، وإن كان الدعاء لا بأس به ، ولا نكارة في معانيه ولا ألفاظه ، من غير اعتقاد أن يترتب عليه فضيلة معينة ، لا ما جاء في القصة ، ولا غيرها من الفضائل ، ومن غير أن يتخذ ـ أيضا ـ وردا ثابتا ، كالأوراد التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .